هجرة الطيور
قصة قصيرة
هجرة الطيور
من مجموعة (ذات الإطار الأبنوسي)
المقطع الثالث و الأخير
شاهدنا فراخ عصفورة الشجرة تصخب و تفتح أشداقها الخضراء ، و الأم تعس لهن بنفس طريقة الأم في القفص . كن ّيمددن برقابهن ذات الرؤوس المسطحة و يصخبن . في حين مكثت طيور القفص كأنها تتجاهل المناكدة بصمت. بدت الحياة تنشط فوق الشجرة وأصـــحاب البيــــــت منصرفون إلى شأنهم . كأنّهم اعتادوا على هذا الصخب و آلفوه .غير أن طــــــــير القفص العجوز ظلّ يطلق تلك الأصوات المحذرة .
* * *
ازدادت علاقتنا تماسكا . في صباح كل يوم نستغل الفرص الدراسية ، نركض سوية ونتصارع ضاحكين . كان يرخي جسده لكي أطرحه أرضا . ربما أراد أن يحسسني بأنني الأقوى ، رغم أن جسده يفوقني متانة .
أتذكر اننا تجولنا ، أنا و صديقي العزيز ، بقلبين لا ريب في نقائهما. لعبنا في المدرسة ، خلف شجرة اليو كالبتوس العملاقة . شابكنا أصابعنا بقوة ، وحاولنا بإصرار و دون جدوى احتواء الجذع الهائل والإبقاء عليه بين ذراعينا. كانت الطيور تصخب في الأعالي ،وقد تواصل زفيف و رفيف أجنحة أنواع الطيور . بدا الملاذ الآمن ملكا للكل . لاح لنا أنهن جميعا يتفاهمن كأنهن صاحبات لغة واحدة ويتحاورن حوارا ودودا لا ندرك مغزاه.
ركضنا حول الشجرة العملاقة . تصارعنا ضاحكين. امتلأت فرص الدروس بالضحك و الممازحة . والعثرات التي أدمت ركبتينا . وضع يده على قلبي المضطرب . ووضعت يدي على قلبه المضطرب .أحسسنا أنهما في اضطرابهما متجانسان . ضحكنا بلا سبب، وتلاكمنا ، ونثرنا مياه الساقية على وجهينا .
* * *
ذلك اليوم ..هو الوحيد الذي لم أذهب به إلى بيت ســـمير . وفي الليل كنت أتذكر لَهْوَنا وأضحك تحت غطائي . وأعددت في ذهني ما سنلهو به في اليوم التالي . وفي اليوم التالي تغيب صديقي ســـمير .
في ساحة الاصطفاف صباحاً أنشدنا نشيد ( موطني ). وصعقت بالخبر المبكي بترحيل عائلة سمير إلى الخارج . ومنذ ذلك اليوم بدأت أتابع باهتمام تلاحق أخبار تلك الهجرة و التهجير واسعة النطاق والتي لم يتوقف تواصلها.
* * *
في أحد الأيام التي أعقبت ترحيلهم ، بعد مضي فترة غير قصيرة ،تسللت مع الصغار في مثل عمري ، كنت متهيبا وأشعر بالحزن والرهبة ، وقلبي يضطرب . فلا أصحاب الدار ، ولا صوت الطيور الحبيسة . ولا حتى العصافير الصاخبة . كأن هذا المشهد قد أكمل مأتما للغائبين. دخلت البيت المهجور الذي آلفته عامرا. وجدنا المقعد الذي طالما شغلته أم سمير ، وهي تدير آلة الخياطة . فوجئت برائحة العتق تفوح من ساحة البيت ، وقد تسربت الرطوبة لكل مكان ، وتبعثرت حاجيات مهشمة ، فتراكم الغبار و الزجاج المحطم فوق المقعد. وشاهدت قفص الطيور المهجور ، وقد تدحرجت آنيته . وتناثرت دمى سميرة ، التي خبت ألوانها وألوان ثيابها الزاهية . هيمن الصمت و الخراب على كل شيْ . وفوجئنا بالخفافيش تتدلّى من سقوف الغرف التي تناثرت محتوياتها. وفي المقصورة التي طالما شغلناها بالفرح ، تبعثرت الصور التي صنعناها من ورق (الآبرو)،لخارطة العراق الخضراء، و العلم العراقي والديكة والدجاج و القطط والفراشات . كنت كما لو اني أسمع أصواتهم تتردد ، و أصوات العصافير و صخب آلة الخياط و صوت الأب و هو يقرأ بكل خشوع بكتابه العتيق . كما تبعثرت مزق من صور المطربين العراقيين : تتردد أغانيهم من الحاكي في رواق البيت (علام الدهر شتتنا وطَرْنا ...) .
لا أدري لماذا تستحضرني تلك الأغنية كلّما دخلت الخربة فتمس قلبي الصغير بالحنين . و تواكب سني عمري في ما بعد مهما تقدم به الزمن .
انفردتُ عن الصغار ، باحثا عن ذلك الثقب في الجدار، الذي أخفيت فيه شعر رأسي . هو الوحيد الذي سلم من بقايا ذكرياتنا التي اندثرت . وجدته يلوذ بذلك الشق ، كان طريا مثل قلب طفل ينبض توّا . أيّة ذكريات بريئة أبكاها الضياع؟
هرعت إلى شجرة اليوكالبتوز ألتي تراءت لي متوشحة بالحزن ، فبدت عصافيرها كأنها لم تألف هذا الصمت .
وعلى مر الأعوام التي تلت ترحيلهم، و عبر زياراتي المتكررة لتلك ألدار ، التي آل حالها إلى الخراب ،اختفت معالم ذكرياتنا ، وانتُهكت معالم كلمات النشيد على واجهة الباب ، فلاحت باحة الدار تنشغل بضيف دائم من بنات وردان ، و البرغش و الذباب . وقد هيمن اليأس و الضمور على الشجرة .
* * *
في كل مرة أشاهد تغير الأمور نحو الأسوأ . أمور الخراب و افتقاد الحياة . حيث تُطْمَرْ الباب عبر الأعوام التي تمر وتتراكم القمامة و الأتربة ، وحجارة البناء المتداعية ، وتختفي معالمه المتقنة الصنع .
كل شيء كان يختفي ، في الواقع المعاش و في الذاكرة ، كل شيء كأنه ختم بالشمع الأحمر ، وما تبقى ليس إلاّ معالم حروف مبهمة ليس إلاّ . و بعد أن كانت أيّامها تعج بالنشاط ، تلاشت معالمها و شَخَصَ ذلك الجذع العنيد ، الممتد الطول، هو ليس إلاّ بقايا من شجرة توحي ، رغم عوامل الزمن الغابر ، بأنها كانت ذات جذور موغلة في العمق ، متشبثة بأرضها مهما قسى عليها الزمن ، و تراكمت نفاياته .
مكث ما تبقى منه ممتداً بإصرار ، متطلّعاً عبر الشارع الطويل . قبعت فوقه حمامة دوح ، تخفي رأسها بصمت كما لو كانت امرأة مقرورة ،أجهدها الانتظار لحبيب طال غيابه.
موسى غافل الشطري
3/آب / 2005
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق