مقطع من رواية ( ليل معدني) نوفيلا
صفحة 4
موسى غافل الشطري
كتبت عام 1996 و منعت من النشر من قبل الرقيب في دار الشؤون الثقافية . ثم نقحت و طبعت الطبعة الاولى عام 2010
***
انطوت ام جاسم على نفسها لمدة اسبوع في بيتها لا تستجيب للدعوات . كانت قد انصرفت بكاملها مستجيبة لحالة من الاستسلام ، إلى ذلك الخوف ، من المصير المرعب الذي اكتنف كل لحظات يومها . لكنها روضت نفسها لتذعن للقدر . لا حيلة لديها لتلافيه . و ليس أمامها سوى أن تراسل ولدها ، ظناً منها انها ستتخطى الأخطار ، و تُطَمئِن قلبه . فواصلت ببعث رسائلها إليه ، مع أي مجند على مقربة من موقعه . ربما لكي تحسسها هذه الممارسة ؛ بأنه قريب منها.
إنها تريد أن تلغي المسافات الشاسعة التي نأت به ، فألقته في تلك الأصقاع الضاربة ببعدها القصي ، و الباعثة بوميض لهيبها. لأنها تفهم ما يدور هناك ؛ بأنه : عراك تكاد أن تلتحم به الأجساد ، حد أن يكون المتقاتلون يتصارعون بالأيدي ويقضمون بأسنانهم أوردة رقاب بعضهم البعض ، فتجسد لها هسيس الحرب و كأنه يلهب وجهها .
تأجج حنينها لولدها الذي يداعب سويداء القلب . فهي الأمية التي لا تقرأ و لا تكتب ؛ بدأت تفهم الآن أكثر من أي وقت مضى .. آلات الحرب ، بأنها ليست للزينة كما يفعل البعض فيصنع من كبسولة طلقة المدفع مزهرية للورود . و رسم ذهنها منظر الحربة التي ثُبتت تحت فوهة البندقية بأنها لبقر البطون والذبح . وإن الطائرات والمدافع لا تنفك عن إلقاء حممها لحظة واحدة . وولدها يُلقى بسعير النار ، بين طيّات تلك الصراعات الملتحمة التي لم يسلم منها حتى الحجر .
أي قلب يمكن أن يصمد و يدعو أيّامه تمر دون كدر ودون قلق و دون بكاء؟ وأي قلب لأُم جاسم التي تكبّدت حنجرتها متاعب كل تلك المآتم فخشن صوتها ، و مال إلى النبرة المسترجلة ؟ فباتت رهينة لأداة مجريات الحرب ودعاياتها وخسائرها.
فمكبرات الصوت آخت بين انطلاق صوتها الذي بدا ذو نبرة حادّة تميل للخشونة بنبرة غاضبة متوجعة متمردة ، مسلحة بعبارات الرفض و البغض المتطرف للمفاجآت غير المرغوبة على الإطلاق . فيتداخل صوتها الرافض المتحدي ، لتطوِّح به في عالم مكبرات الصوت التي تنقل معطيات فواجع الموت الوافدة من جبهات القتال .
***
في ميادين القتال .. اعتاد جاسم و تطبع على هذه الليالي ، و الصباحات المكتظة بالمناوشات ، و الضربات الاستباقية . يتخاطب ليلها و نهارها بلغة الفولاذ ووميض البارود . يرتطم ، و يتحطم ، و ينصهر ، و يتفجر بعضه ببعض . يقذف حمما من كل الجهات . يشتبك في السماء و في الأرض . و تتعالى الحرائق التي تلتهم حتى الحديد . و جاسم وسط هذا كله . ليس سوى رأس مشلول الإرادة ، لا ضرورة لاستقراره بين منكبيه ، و لا يتحكم بما يحيط به من احداث ، و لا يسيطر في مجرياتها سوى على شاجورين من الرصاص فحسب . يأتيه أمر : إرمِ ، فيرمي . و قلب .. تحاول رسالةٌ جاءته من ذويه : أن تصارع كل هذا الذي يجري لضمان سلامته . لذا تعود أن لا يأبه ، إن كان الموت يستلقي بجانبه أو يقبع قرب ملاذه . فالموت لم يعد محدد المعالم ، و لم تعد هناك قوة تتصدى لردعه . إنما كل شيء تحت رحمته .
***
بدأ جاسم يدرك لغة الحرب ومصطلحاتها ، وســـــــاعات إرخاء حبلها . وبَعد نواح ليل مدلهم ممطر , كان الأُفق يلتهب بين لحظة وأُخرى . وفي أحيان متعاقبة هي الأكثر سيادة ، يستضيء بالكامل و تتواصل حرائقه .
***
بعد هذا روّق مزاج جاسم يوم مشمس هادئ . أسعده ..أن يتابع فيه قراءة كلمات أخيه المتدفقة بالحنان الطفولي . أنها بالكاد , تقتدر على تحمل أعباء توصيات أمه.
أعاد قراءة تلك الكلمات المتعثرة اللذيذة :
(( أخي جاسم ، نور عيني و مهجة قلبي .. أمك أرسلت لك و لمحمد و أصدقائك هذه ( الكليݘة و الفلافل و كباب البيت و خبز باللحم ) توصيك .. ابني .. ابني .. أول شيء : لا تهمل نفسك , و تطمئنك .. بان الحصان بخير. ففي كل مساء .. يتطلع صاهلا منتظراً عودتك ، عبر نفس الطريق . وأنها حلمت: بان أبا اللأئمة يدثرنا - نحن الاثنين - بالغطاء وهذا يعني أننا جميعا بحمايته . لذا : لا تدع القلق يحزن قلبك )) .
كبح دمعة أوشك أن يذرفها. كانت أمه كحالها دائما تكابر ، هو يعرف أن قربه منها.. ملاذها وانسها و ضمان قرة عينها . غير أنه يدرك : إن هذا التدفق من الجنائز يوشك . أن يبتلع اطمئنان قلبها.
(( أخي جاسم.. أنا أخوك حسن الذي يحبك . أنا كما كنت تفعل أنت كل يوم فاني أنجز عليقة الحصان و أعتني به. أما جارتنا - أم محمد - فتأتينا كل مساء, وتبلغكما سلامها.إنها تنتظر ولدها محمد ، وهي مطمئنة بكونكما على قرب من بعضكما ))
شاكسه محمد القابع على مسافة منه :
ـ أما اكتفيت ؟
قال جاسم باسماً :
- ليس بعد .
من جديد وعبر قصاصة الورق, تهادى في عربة الآلام ، عبر مفازات الكلمات البريئة. غائرا إلى عمق كلمات أمه . إلى قلبها الذي حل إلى جانبه عبر الرسالة . مندفعا باتجاه تيار الشوق ، ألمقاوم لكل الواقع الذي يعيشه بكل معطيات ميادين الحرب . بكل حواسه اللاجئة لمكنون صدرها ، الزاخر بالقلق و الهم على مصيره :
(( لا تقلق علينا.. فنحن بخير . كل ما يشغلنا هو أن تحافظ على نفسك)).
وفي حسرة ساخنة .. خاطب نفسه : ( يا ليت ... يا ليت أن يتحقق ذلك ليزداد قلبي اطمئناناً . أفديك بروحي يا أمي الحنونة ) .
بقي متشبثا بالرسالة مثل نافذة يطل من خلالها إلى حيث الأحبة ، والشوق إلى النوم الهادئ القرير ، والأزقة التي ترتادها عربته. كم هو متلهف لتلك الأيام ؟ حين كان - قبل أن تبدأ الحرب و تزداد المآتم – كان يُطوّح بصوته الشجي من فوق عربته المتهادية . والى وداعة تلك الأيام ويسرها. كم كان يسعده حين إيابه من عمله ، ليجد أخاه بانتظاره في إطـــلالة الزقاق ؟
إذن على أخيه أن يكبر بسرعة و يأخذ دوره . فقبله طالما أتعبت جاسم شدائد الأيام والتهمت بهجة طفولته وتخطاها . حتى مكنته أن يعتلي عربة يجرها حصان ليس (كديشا ) ، بل ذا أصول نقية. لذا نادراً ما ألهب ظهره بضربة سوط فإن فعل ذلك فإنه يميل على أذنه و يهمس :
- ألأخ الكبير يؤدب .
كان يعامله باحترام كأي عضيد . فهو كالأخ . و هذه ليست اهانة إنما عمل تأديبي . وحين يحس بانه تخطى حدوده معه يهمس بإذنه باسما :
ـ عليك مثل أي ولد نبيه.. أن تحتفظ بتوصية أمي بأنني الأخ الأكبر لك، و الأخ الأكبر ماذا يفعل ...؟؟ يؤدب .
تآخى مع الحصان فعلاً . فلم تتح له طفولته وقتاً للهو . فهو اما يغني أو يخاطب الحصان .
ينقطع عن القراءة بفعل تقريع محمد :
- كفى يا آخي كفى ، ماذا أقول أنا ؟ هل تخلق لنا مناحة ؟
ثم جفاه وقرفص على مسافة. بينما مكثت الرسالة تراوح بين يدي جاسم و ينحني رأسه فوقها كأنه يخلد ليستريح بين حنايا قلب والدته ، التي تأبى أن تدعه وحيدا .
يظل محمد .. يرقبه هو الأخر عن كثب . فطالما كرر قراءة رسائل أخويه الراحلين .
هل يضايقه ذلك ؟
ظلت أحزان الذكريات تتسرب إلى روح محمد. غير إن رأس جاسم الذي ما انفك مثقلا بكلمات أخيه ، قد اجتثّ بأقل من لمح البصر واختفى . بل لم يحس محمد بالذي حدث ، سوى.. بعد أن تلاشى الغبار بدا جسد جاسم قائما والقصاصة بين يديه ، والرأس مفقود. حالة لا يتقبلها العقل ، أفزعته وأذهلته .
كانت حالة اختفاء انتصاب جسد جاسم بدون رأس قائمة والدم لائذا مصعوقاً. تلك الحالة ، أفزعت محمد وأصابته بالإرتباك ، فانسحب إلى بعد مناسب ليرقب ما يحدث لجثة جاره .
***
الموت والنواح لا يستثنيان بيتاً ، ويطرقانه حين اقتضاء ذلك . وليس هناك امرأة – بنت أبيها- لم يجفل قلبها، ولم ينخلع من طرقة باب عجولة ، حتى لو كان نهارا . فذلك الطرق هو موت آخر يبهت الروح و يقطع نياط القلب . فكيف بثقل وطأته أثناء ليل موشح بالهدوء المريب ؟ حتى إذا.. ما زحفت حلكته ، وترددت بين ليلة وأخرى، دمدمت زاحفة ، وانبعث وميضها من مسافات قصية . ليلهب هدوء المرء ، بسياط من الفزع والخوف. من غول مجهول متربص ، شرهٌ يبتلع كل شيء . يعتلي أكتاف ليلة ليلاء قارصة ، أقفرت منها الشوارع ، و ليزف الردى والنكبات ، على نحو طرق مرعوب على الباب .
كان أول من استقبل هذا الضيف الثقيل.. همهمة حصان جاسم ، ثم صهيله في باكورة الليل . تتبعه..إطلالة ، لنعش من فوق الباب , وليتلو ذلك.. صفعات من الطرق الليلي. سيل عارم من الكدر المذهل . فأين أم جاسم من كل هذا ؟ من تلك المفاجأة ؟ أي ذعر رافق الصهيل المجلجل ليستقبل ، طرقاً عجولاً ، لا يراعي عنف الخوف ؟
فانطلق صراخ أم جاسم مجلجلاً ، ليبعث برسالته إلى آذان كل البيوت التي استقبلت فيه هذا الصراخ المتعالي دون انقطاع .
يتبع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق