ذلك الرجل الكهل
الى روح ابي في غربته
جاسم العبيدي
لوجه ابي
ذلك الرجل الكهل
في العيون قصيدة
لم يكن يشتكي ضنك العيش
منتظرا
لم يكن يبث خفاياه
حين تدور الرحى
وتخفق أوصاله
في وريده
خوفه انه ذو الثمانين عاما
أن يخلف أحفاده
ليقتسموا ماتبقى من العمر
بين التشظي
وبين الحروب
فياكل كل عذاباته
مستقلا
بما لا يريد احتسابه
·
يالوجه ابي
ذلك الوجه ذو الثمانين عاما
غادر البيت مؤتمنا
غير ان النوايا تشظت
وكلا اعد رحيله
ابي
لم يزل يعشق الصبر مثلي
حتى كان المرارات
تنهش أضلاعه وحشة
وتقتل فيه احتساب الزمان
وما يستعيده
غير ان ابي
ظل كما كان لم ينحني للصعاب
كان يذكر أذكاره في الصباح
ويدعو لأحفاده بالصلاح
وكما وهن العظم منه بناءا
لم يكن يستجيب لذاك الوهن
كان يدعوا دعاءا طويلا
لكي نستمر بقاءا
بحضن الوطن
·
حين مرت به الحرب
حمل اكتافه دون خوف
لم يكن ينحني
وهن العظم منه
تلك أيامه الغاربات
لم تكن تعرف منه انحناءا
لكل الصعاب
·
ابي ذو الثمانين عاما
يسكن الان قبرا
نام بين ابنة وابنها في الظلام
حين غادرنا
ظلت روائحه تملا الدار
لكنه البيت
حين كان يسامر غربته
لم يزل يشتكي
وشكواه كانت تحاور أنفاسه
وحتى أضاعت رؤاه
اه من زمن تؤرقه السكنات
ان بيتا بناه ليبقى
ليحفظ أبناءه في الرزايا الثقال
أضاعوه أحفاده
وظلت بقاياه
منثورة في الليالي الصعاب
وكانت بقاياه شريان دمع ودم
·
لم يكن دمعه حاسرا
كان جمر الحرائق فيه مشتعلا
فلا الأرض ظلت بقاياه فيها
وهو ما زال
منسحبا في الكفن
ذلك الوجه
وجه ابي ذو الثمانين عاما
تشظى وزاد احتراقا
على وطن بيع للغرباء
فلا هو ظلت بقاياه فيه
ولا من وطن
·
كلما مر عام
نصلي عليه صلاة الغياب
تحزم فينا دعاءا
ونحن الكبار الذي لم يعد
يتوسم فينا الدعاء
ظللنا وظلت حماقاتنا
تتصاعد فينا
ليهرس أجسادنا البعد عنه
تشظت حكاياته
وارتطمنا بما لا يريد
فكنا فرادى
ولم نعرف البعض
حتى تشابك فينا التعري
فكنا حفاة
عراة
يمزقنا الدهر
تنقلنا الريح ناثرة كالفتات
·
هكذا كان وجه ابي غيمة ماطرة
هكذا صار وجه ابي
بعد عز بقى يسكن المقبره
جاور الحسن البصري
وعيناه تبكي
على حزمة شدها وارتخت
توكأ يوما بعكازه
وانحنى جسدا مثقلا بالهموم
لم تزل بقاياه تطرق أسماعنا
فانحنينا لها
لكنها لم تزل ما انحنت
رغم كل الصعاب
·
اه من أمنا تركتنا ندور
نلف الشوارع خوفا على بعدها
نسج العمر إضلاعها من بقاياه
وحين تشظى الكبار
وأدمى قلوب بنيها العذاب
سرق الموت منها البنين
مات عنها بعيدا آخي
وهي تبصر أضلاعه تتشظى احتراقا
بين بعد المسافات
والهم والمرض المستديم
انه الآن بين حطام المنايا
لم يزل يشتكي
عمره الذي ضاع منه
وضيعه في المنافي البعيدة
قبره في البعيد وحيدا
بروح تدور علينا بحزن
فلا نستجيب
·
ذلك الوجه
وجه ابي ذو الثمانين عاما
لم يزل صوته ,
دمعه دافئا
يغطي مراراتنا
وهو يقضي المساء بعيدا
ولا نذكره
قطعت لحم أكتافه ليطعمنا تعبه
حين ودعنا
لم يكن يستطيع الكلام
لكن عيناه كانت تفيض من الدمع
حزنا على حزمة انفق العمر فيها
فصارت هباء
أثر الدهر فيها انحناءا
وحين أهلنا عليه التراب
كان يصرخ فينا
غربة صرت فيها
لملموا شملكم قبلها فالحياة فراق
ظل يطرق أسماعنا صوته في المساء
ولكننا في الصباح انتفضنا
وهو في غربة ظل فيها ولا من مجيب
لقد ضيع الدهر أيامنا
وضاع مع العمر ذاك الوطن
بقينا بلا وطن نرتجيه
ولا من وطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق