القطار "قصة قصيرة" بقلم الاستاذ الأديب الكاتب فيصل التلاوي

. . ليست هناك تعليقات:
القطار (قصة قصيرة)

بقلم: فيصل سليم التلاوي

صعد الرجل العجوز وحيدا درجات سلم القطار بخطوات واثقة، حيث لم تنل السنوات من ثبات قدميه، واستقامة قامته وحدة بصره. ما التفت وراءه مطلقا، وما لوحت له يد بوداع.

جلس في ركن العربة طاويا تحت إبطه صحيفة ومجلة، لا بد أنه قد حرص على اقتنائهما لتزجية الوقت في رحلته الطويلة.

لم تنقض سوى دقائق معدودة، حتى امتلأت العربة من حوله بمجموعة من الشباب في مقتبل أعمارهم، يجمعهم حديث متداخل مشترك حول تصديق الشهادات الجامعية، التي نالوها حديثا من بلدان شتى، يختلط حديثهم بفرح تشي به ملامحهم، وتشع به عيونهم واجتهاداتهم المتضاربة:

- الخارجية أولا ثم التعليم العالي.

- السفارة قبل ذلك.

- بل سفارة بلادك في الدولة التي تخرجت فيها قبل ذلك كله.

ودّ لو يدخر لهم جهودهم، ويوفر عليهم أوقاتهم ونقودهم، التي سينفقونها في جولات ذات اتجاهات خاطئة، فيقول لهم بكلمات مقتضبة:

- من صدقها من سفارة بلاده في الدولة التي تخرج فيها، فليذهب للخارجية ثم للتعليم العالي، أما من صدقها من خارجية الدولة فقط دون سفارة بلاده هناك، فليتجه إلى سفارة الدولة هنا أولا، فالخارجية فالتعليم العالي، فيحسم بذلك كل قول. لكنه تردد قبل أن يقولها، وحدث نفسه قائلا:

- ومن قال إنهم سيصدقونني، أو أنهم سيأخذون برأيي؟

ونبش عميقا في غور ذاكرته، وهو يسترجع عشرات الجولات التي قطعها في رحلة تصديق شهادته الجامعية، وشهادات الخبرة بعد ذلك، في سيارات التكسي آناً، وعلى قدميه آونة أخرى، دون أن يسأل أحدا، وأردف محدثا نفسه:

- لا أحد يصدق تجربة غيره، ولا أحد يقتنع بخبرة من سبقه، ولا يقتني الإنسان إلا الشيء الذي يدفع ثمنه من جيبه.

دعهم يجربون حتى يهتدوا لضالتهم بأنفسهم، وأضاف هامسا لنفسه:

- ثم إنهم قد يلتقطون إشارة غمز واستخفاف، تطيح بهذه النشوة التي تدور برؤوسهم، عندما يدركون أن هذا العجوز المنزوي في ركن العربة أمامهم، قد مر بتجربتهم هذه، وفرح الفرح الذي يفرحونه الآن قبل ما يزيد على الأربعين عاما.

لم يطل مكث هؤلاء الشباب بصحبة العجوز في عربة القطار، فسرعان ما نزلوا في المحطة التالية، وخلت العربة إلا من العجوز وحده لبضع دقائق، ريثما ازدحمت بشباب أكبر سنا بقليل من الدفعة السابقة، وقد فاحت من أحاديثهم روائح النفط، وأزيز الطائرات والموانئ البحرية وركوب الأخطار، مما يوحي بانخراطهم في عالم المال والأعمال والأسفار والاغتراب، لاهثين وراء الثروة والشهرة والجاه.

يطول حديثهم وتباريهم في سرد غرائب الأخبار والمغامرات التي ينسبها كل منهم لنفسه، (فليس أكذب من شاب تغرّب إلا...)*

وأطبق العجوز فمه عن إتمام بقية القول خشية أن يناله منه نصيب.

تطول رحلة هؤلاء نسبيا أكثر من سابقيهم، فمحطتهم التالية أبعد مدى، لكنهم يدركونها بعد لأي على أي حال.

يغادرون القطار دفعة واحدة، ويبقى العجوز في ركنه متصفحا جريدته، بينما يصعد لمرافقته في العربة فوج جديد.

أزواج متأنقون وزوجات جميلات هذه المرة، بعضهن يحضنَّ أطفالاعلى صدورهن، وأخريات يمنين أنفسهن الدخول في التجربة.

تختلط أحاديث هؤلاء الرجال حول المستقبل وتأمين العيال، وأسعار الأراضي وبناء المساكن، بينما تتحدث نساؤهم من وراء مكياجهن الفاقع، عـن أحدث الأزياء ومواصفات غرف النوم والسفرة، وأحدث الأكلات العصرية، التي يتابعنها مع الشـيف رمزي وأضرابه من طهاة الفضائيات، وقد أنسين ذكر طهـو

أمهاتهن وجداتهن.

تطول بهؤلاء المسافة طويلا قبل بلوغ محطتهم التالية، مثلما يثقل على العجوز إرغام نفسه على تجرع ثرثراتهم المتداخلة، التي لا يكاد يسيغها، والتي يحس أنها معاول تنقر في دماغه، فتسبب له الصداع والغثيان.

يتنفس الصعداء أخيرا عندما يزفر القطار زفرته الطويلة، مؤذنا ببلوغ المحطة التالية، فينفض من حوله هؤلاء الذين ما أخمد السفر الطويل ألسنتهم، ولا هـدّ أبدانهم، يتسابقون متدافعين عبر باب العربة، الذي يلفظهم إلى رصيف المحطة ليستقبل غيرهم.

دفعة جديدة من الكهول بصلعاتهم اللامعة، ونظاراتهم الطبية، وبقايا أناقة تنبئ عن أيام بذخ فائتة، وتنم عن مهابة آفلة.

يجلس الركاب الجدد برزانة و وقار، يصمتون أكثر مما يتكلمون على نقيض الدفعات السابقة من الركاب. تتمحور أحاديثهم المقتضبة حول الأبناء الذين بلغوا أشدهم وحلوا محلهم، فملؤوا كل فراغ خلا باعتزال آبائهم، وخلودهم إلى سكينة وادعة. وأحيانا يعـود بهم الحديث إلى ذكريات شيقة خلت، أو يحملهم الحلم على جناحه، فيطالعون وجوه أحفادهم وحفيداتهم الصبوحة، فينتشون فرحا يرتسم بسمات على وجوههم.

لم تطل صحبة العجوز لهذه الدفعة المريحة من الركاب، إذ سرعان ما أدرك القطار محطته التالية، التي غيبهم فيها رصيفه الموحش، فشهق شهقته المفجعة المعتادة مواصلا سيره.

لم يصعد أحد في هذه المحطة إلى عربة العجوز، الذي عاود من جديد تصفحه للمجلة، التي تصفحها من قبل مرات ومرات لا يحصي لها عدا.

لم يطل مسير القطار حتى توالت زفراته الحادة المتقطعة، مثل نباحٍ متواصلٍ لكلب جريح، مؤذنا ببلوغ محطتة النهائية.

لم يتزحزح العجوز من مكانه، ولا همّ بمغادرة القطار، بل واصل تقليب صفحات مجلته، واستمر على ذلك حتى أدركه مفتش القطار، الذي يمرعلى العربات واحدة واحدة، ليتأكد من خلوها من الركاب، وأن القطار قد أفرغ حمولته كلها قبل أن يبدأ رحلة العودة.

فوجىء المفتش بالعجوز الذي لم يبرح مكانه بعد فسأله:

- لِمَ لمْ تغادر القطار أيها الشيخ، وقد أدرك محطته النهائية؟

- ألا أستطيع العودة معكم في رحلة الإياب؟

- أبدا، فهذا قطار ذو اتجاه واحد. ذهاب فقط. لا يؤوب إلا فارغا، ليتمكن من الإتيان بحمولة جديدة كاملة.

- ولو دفعت لكم ثمن التذكرة مضاعفا، وتعهدت بالعودة معكم في الرحلة القادمة؟

- مطلقا، فلا يحق لراكب أن يركب هذا القطار سوى مرة واحدة في العمر.

لا بد ان تنزل أيها الشيخ، ليتسنى للقطار أن ينطلق عائدا إلى محطته الأولى.

- وماذا أصنع هنا في هذه المحطة؟

- تصنع ما يصنعه جميع من سبقوك، تنتظرعلى الرصيف، تنتظر الذي يأتي، والذي قد يطول أوان قدومه أو يقصر، أنت وحظك. وأردف المفتش:

كثيرون من ركاب القطار لا يبلغون هذه المحطة أيها الشيخ، وقلة يبلغونها وقد هدهم الإعياء والتعب، فلا يطول انتظارهم على رصيفها الموحش المهجور، وأقل منهم من يبلغها متعافيا صحيح البدن مثلك، فيطول انتظاره.

نهض الشيخ من مكانه هابطا درجات سلم العربة متمتمًا:

إنني أستطيع تحمل مشاق الرحلة كلها، من محطتها الأولى وحتى الأخيرة، لو تتاح لي الفرصة ثانية.

يلقي به السلم على الرصيف الموحش المهجور مقرورا وحيدا، ليبدأ الدخول في تجربة الانتظار.



ليست هناك تعليقات:

آخر الأخبار

3efrit blogger


أنا أبنك ياعراق وعاشگك حد الجنون لو تخون الدنيا كلها لا تظن أبنك يخون . أنا عــراقـي

تابعونا على الفيس بوك


مؤسسة السياب الإليكترونية تجمع ثقافي عربي بلا حدود

هل تعلمين .. وأنا أبحثُ عنّي ؟! كنتِ هنا فأكتفيتُ بأنكِ امرأتي التي حلمتُ بها لأرتديها قصيدة وألوّنها بالحروف . منى الصرّاف / العراق

# إبتسم .. الدنيا متسوه - ما إجتمع أربعة رجال بمكان واحد إلا وكانت النار وراء أفعالهم ! وما إجتمعت ثلاثة نساء بمكان آخر إلا وأحرقنّ الرابعة الغائبة ! منى الصرّاف / العراق

مؤسسة السياب للثقافة والآداب

مؤسسة السياب للثقافة والآداب

كل عام والمرأة اينما كانت بالف خير انتم نحن .. بعيدا عن فوضى الهويات .. نسكن الارض نفسها ونتنفس الهواء ذاته انه التعايش الانساني المشترك .. تجاوزنا حاجز الثقافة واللغة واسسنا لغة الجمال .. ( بقليل من الطين وكثير من الحب هكذا تصنع الاوطان ) منى الصرّاف / العراق

من منّا حين عجزت أدواته لم يحلم بفانوس سحريّ أو بساط طائر لتحقيق أمنياته ليصحو بعد ذلك لعيش قسوة الحياة ، كيف باستطاعتنا الدخول في معركة بمفردنا نعرف سلفا سنخرج منها بخسارة كبيرة ، حتى لو امتلكنا الشّجاعة لمطاردة أحلامنا ، فكيف نصل الهدف دون معرفة أدواته ، فللشجاعة أيضا أدواتها ، حين تكون اليد خالية فأحلامنا سرعان ما تذبل ، أمّا البطولة فهي تحدث فقط ! دون التخطيط لها . منى الصرّاف / العراق من رواية ( للعشق جناحان من نار )

روايتي ( بتوقيت بغداد ) وفي اول طرح لها في بغداد بعد مشاركتها في العديد من المعارض الدولية الصادرة عن دار النخبة في جمهورية مصر العربية ومجموعتي القصصية ( للخوف ظل طويل ) في طبعتها الثانية الصادرة عن دار كيوان في سوريا ستجدونها في بغداد - شارع المتنبي - مجمع الميالي في دار ومكتبة ... ( الكا ) للنشر وبامكان الدار ايصالها لاي شخص يرغب من المحافظات العراقية حين الاتصال بهاتفهم المعلن على واجهتها . الكاتبة والشاعرة منى الصراف

مجلة السياب الليكترونية / قــسم الارشيف

آخر المشاركات على موقعنا

لـــوجـه ابي بقلم الاستاذ الأديب جاسم العبيدي

أهلاً وسهلاً بك أنت الزائر رقم

الصفحة الرئيسية

مـن أجـل سـلامـتـك .... بـس خـليـك بالـبيت 🙆🙋🙇👫

مـن أجـل سـلامـتـك .... بـس خـليـك بالـبيت        🙆🙋🙇👫
نصائح للجميع حول الوقاية من جائحة كورونا: ١- أهمية التباعد الإجتماعي كون فيروس كورونا لم يثبت الى اليوم انتقاله عبر الهواء لذا خليك بالبيت وعند اختلاطك بالناس إحرص ان تكون المسافة بينك وبين الاخرين من متر ونص الى مترين . ٢- غسل اليدين بالماء والصابون بإستمرار ولمدة 40 ثانية عند خروجك من الأسواق والأماكن العامة وتجب ان لا تلمس وجهك أثناء وجودك بالأماكن العامة ، ويفضل عند تواجدك بالأماكن العامة أن ترتدي قفازات عند دخولك البيت يجب وإزالتها . ٣- لست بحاجة إلى ارتداء الكمام الطبي إلا اذا كنت تعاني من العطس او عندك شكوك أنك مصاب بفيروس كورونا ، ولكن يفضل إرتدائها عندما تكون في الأسواق والأماكن العامة حتى تتجنب لمس وجهك دون إدراكك على أن يتم رميها والتخلص منها قبل دخولك البيت وانتبه أن تكون إزالتها عن الوجه بالطريقة الصحيحة حتى تتجنب ملامسة اليد لها وذلك عن طريق رفع الخيط المتصل بالأذن اليسرى بإستخدام اليد اليمنى وسحبها باتجاه الإذن اليمنى أو العكس بالعكس دون ملامسة الوجة الخارجي للكمامة. ٤- إحرص على غسل مقابض أبواب البيت الرئيسية بالماء والصابون عند دخول أي فرد من أفراد العائلة.

About the site to your language

مساحة إعلانية

شروط النشر في مجموعتنا على الفيس بوك

1- يمنع منعاً باتاً مشاركة المنشورات والفديوات في النشر ولوحظ بعض المسؤولين والمشرفين بممارسة هذة الممارسه الخاطئة للاسف يمنع منعاً باتاً منح الموافقات للمنشورات الطائفية والتي فيها تجاوزعلى الذات الالهية والرموز الدينية والتاريخية ومنشورات الاعلانات التجارية 2- يمنع نشر بطاقات التهنئة للمناسبات الدينية والوطنية وتحية الصباح والمساء الامن قبل رئيس مجلس الادارة ومدير التحرير للمجلة ومن ينوبهما فقط 3 -تحدد المنشورة بمنشور واحد فقط للعضوا في اليوم اعتباراً من هذا اليوم1تموز2017 واثنين للمسؤولين والمشرفين تقديراً لجهودهم على الجميع الالتزام بما ورد اعلاه مع الشكر والتقدير للجميع . الاستاذ الأديب الشاعر ماجد محمد طلال السوداني مستشار مؤسسة مؤسسة السياب اليكترونية للادب والثقافة والمشرف الاداري العام للمؤسسة والمسؤول عن تنفيذ سياستها

مساحة إعلانية

مؤسسة السياب للثقافة والآداب للمزيد من المعلومات والاستفسار الإتصال بنا على الهاتف مراعاة الرمز البلد(العراق) 00964 07803776116

تــــنويــة

كاريكاتير اليوم

كاريكاتير اليوم