(قصيـدة النثـر)
إشـكالية المصطلـح والتأصيل
بقلم حسين عجيل الساعدي
الجزء الثاني
(الشعر أزلي ولكن الوجوه التي يمنحنا إياها مختلفة دائماً).
الناقدة الفرنسية "سوزان برنار"
ماهية (قصيدة النثر):
رب سأل يسأل ما جدوى البحث عن ماهية الشعر ونشأته في موضوعة (قصيدة النثر)؟
تعددت أوجه أستعمال لفظة (الشعر) الذي جمعه (أشعار) في اللغة، فمن ذلك أنه العلم، والفطنة، والإدراك، والاطلاع، والإعلام، والدراية .. ، (وقائلُه شاعِرٌ لأَنه يَشْعُرُ ما لا يَشْعُرُ غيره أَي يعلم)، معجم مقاييس اللغة. (وسمِّي الشَّاعر شاعراً، لأنه يفطِن لما لا يفطن لـه غيرُهُ. قالوا: والدليل على ذلك قولُ عنترة:
هل غادَرَ الشُّعراءُ من مُتَرَدَّمِ
أم هل عَرَفْتَ الدَّارَ بَعد توهُّم
يقول: إنَّ الشّعراء لم يغادِرُوا شيئاً إلاّ فطِنُوا لـه)، معجم مفردات القرآن للراغب: مادة (شعر) . والشاعر في أصدق تعريف له، ما ذهب إليه "عباس محمود العقاد" (من يَشْعُر فَيُشْعِر).
لقد اختلف النقاد في تحديد ماهية الشعر الحديث، مثلما اختلفوا في تسميته، فنجد "نازك الملائكة" تسميه (الشعر المعاصر) في كتابها (قضايا الشعر المعاصر)، و"محمد النويهي" في كتابه (قضية الشعر الجديد) شعر جديد وليس معاصراً، ورأى "غالي شكري" أنه شعر حديث نظراً لما تشتمل عليه لفظة الحداثة من شمولية.
هذا الشعر الحداثي أو الحديث أو المعاصر (يعتمد توجهاً فنياً خاصاً في الأداء الشعري، فدعو إلى ترك بحور الشعر التقليدية وعروضها التي صنفها الخليل بن أحمد الفراهيدي وإلى الانعتاق من كل القيود، ليس قيود البحور الشعرية والقافية فحسب، وإنما من كل ما قد يوحي بأنه مجرد امتداد للماضي، فابتكروا القصيدة التي أسموها بالحرة، ثم قصيدة النثر، لتحررها من قيد البحر الخليلي، والتزام القافية)، "موسوعة ويكيبيديا الحرة".
(قصيدة النثر) أخذت تفرض نفسها كجنس أدبي، له ميزاته وخصائصه ولغته الشعرية واصطلاحاته اللغوية. ورغم مرور أكثر من نصف قرن على الظهور الأول لـها في المشهد الشعري العربي الحديث، إلا أنها ما تزال تعد أكثر الأنماط الشعرية جدلاً في الدراسات النقدية، الجدل القائم لدى النقاد في (الاصطلاح والتأصيل والتجنيس والماهية، والأختلاف في الرؤى الخاصة بها).
أن (قصيدة النثر) ينظر اليها كإشكالية نقدية وشعرية، فهناك من يعدها بدعة في الأدب العربي أو (كذبة لغوية)، لأنها بعيدة عن الذائقة العربية. وأخر ينظر لها (كمولود شرعي لعلاقة غير متكافئة بين الموروث العربي الأدبي والموروث الغربي). أما "سوزان برنار" ترى أنها (مبنية على إتحاد المتناقضات ليس في الشكل فقط، وإنما في جوهرها كذلك، شعر ونثر، حرية وقيد، فوضوية هدامة وفن منظم).
أن تعددية النظريات النقدية (التكوينية والسيميائية والتفكيكية ... وغيرها)، لم تطرح تعريفاً جامعاً كافياً يمكن أن يحوي (قصيدة النثر)، بل نرى أن هذه النظريات زادت من إشكاليتها، والسبب أنها كُتبت وفق سياق معرفي غربي يختلف عن السياق المعرفي العربي.
فقد عرفها "عزالدين المناصرة" على النحو التالي: (نصٌّ أدبي تهجيني، مفتوحٌ على الشعر، والسرد، والنثر الفني، عابرٌ للأنواع، يفتقد إلى البنية الصوتية الكميّة المنظمة، لكنه يمتلك إيقاعاً داخلياً غير منتظم)، أما "أدونيس" عدها (كتلة مشعة مثقلة بلا نهاية من الإيحاءات قادرة على أن تهز كياننا في أعماقه، إنها عالم من العلائق). وقد أوردت الموسوعة العربية العالمية تعريفاً منصفا لـ(قصيـدة النثـر)، يتضمن أغلب مقولات أنصارها، حين عرفتها بأنها: (جنس فني يستكشف ما في لغة النثر من قيم شعرية، ويستغلها لخلق مناخ يعبر عن تجربة ومعاناة، من خلال صور شعرية عريضة تتوافر فيها الشفافية والكثافة في آن واحد، وتعوض انعدام الوزن التقليدي فيها بإيقاعات التوازن والاختلاف والتماثل والتناظر معتمدة على الجملة وتموجاتها الصوتية بموسيقى صياغية تحسُّ ولا تُقاس ...).
أن (قصيدة النثر) تعد قفزة حداثوية تحررت وتمردت بشكل كلي على قوانين الشعر العربي القديمة والحديثة، وعدم الالتزام بقواعده السائدة والتقليدية، والتخلص من قيود نظام العروض في الشعر العربي، فقصيدة النثر ليست هروباً من الشعر بل هي قصيدة صعبة جداً، على حد وصف "أندريه بريتون" (مَا مِنْ شَيءٍ أصْعَبُ هَذِهِ الأيَّامِ، مِنْ أنْ يكونَ الإنْسَانُ، شَاعِرَ قَصِيدَةِ نَثْرٍ).
للكلام تتمة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق