أرضٌ يكسوها الثمر الناضج، تُفصحُ عن يدٍ تعتني بها بحرص شديد وكأنها وحيدة أبيها المدللة. بُستان لأشجار التفاح الأخضر يغدقُ عند كل موسم - من خيراتِه - إلى تلك اليدِ السمراء، التي رُسِمتْ على باطِنها خطوط تعب السنوات المضنية.
الحاج عُثمان: فلاحٌ بلغ المحطة الستينية من قِطار العمر. هجرَ كل مُغريات المدينة، التي أوقعتْ في شباكِها إخوتَهُ الآخرين. لم تتضورْ مشاعر الحاج جوعاً لغزل حبيبةٍ ما، فقد كانت أرضهُ، وأشجاره، وما تُهديه إياه من ثمار تُعادل ألف قصيدة غزل موزونة عنده.
لم تَكُن الأيام دائمة الإنصاف معه ليصيب بلدته فيضان بين سنةٍ وأخرى - لقرب أرضه من نهر القرية الكبير - يتسبَّب في القضاء على معظم أشجار بُستانهِ ولاسيما تلك الصغيرة منها، ليتكبَّد الحاج عثمان خسارتَهُ لوحده في كلِّ مرَّة وهو يُجاهد للارتكاز على قدميه من جديد، فيُعَمِّر - بعد جُهدٍ مضنٍ - بستانَه الأخضر. ليُغدق على رفوف المحال بمنتوج محصوله الزاهي.
اعتاد الحاج زيارة عائلة مُتعففة لا تملك من الخبز إلا ذلك المقدار، الذي يسد رمق جوعها لسويعات، لمنحها نصيباً مما رُزق، بعد كل صفقة بيع لبضاعته الطازجة.
طلب منه راعي العائلة المتعففة أنْ يغدق عليه من كرمه أكثر، ويمنحه عملاً ما في أرضه، عسى أنْ ينفع ويستنفع. وافق الحاج على استحياء، لكونه لا يحتاج لمن يعينه على الاعتناء بخضرائه، لكنه احتسب نيته عند الله ليست بهيِّنه.
تردد الرجل على الحاج وراح يحرث الأرض، ويسقي الزرع، ورمى سنارة ابداعه في إعداد الشاي في جوف الحاج ليتعوَّده عند كلِ استراحة من العمل.
شعر الحاج عثمان بأنَّ الأرضَ بيدٍ أمينة. وتسلل الكسل إليه. ليصير الرجل شيئاً فشئاً المُسيطر على المحصول والمبيعات وما على الحاج الا الاستلام والإشراف الأخير.
أخذ صيتُ الرجل يُذاع في القرية، لحسن بضاعتهِ ودهاء عقله في الحساب والكسب الفطري.
وذاتَ صبيحة جاء الرجل مُسرعاً مستبشراً ضاحك السن، ليخبره بأنَّه التقى بأحد التُجَّار واتفق معه على أنْ يشتري المحصول في كل عام بالجملة، وبالسعر الذي يطلبه الحاج عثمان، مُعللاً ضرورة موافقته قائلاً:
- يا عم! خيرٌ لنا أنْ نضمن بيع الأثمار كُلها. ولعل في ذلك تعويضٌ لأي خسارةٍ إنْ تعرضتْ الأرض لفيضان ما كما السابقات.
فرح الحاج بما سمع إلا أنَّ الرجل أخبره بضرورة توقيع عقدٍ بينه وبين التاجر لحفظ حقوق البيع والشرآء للطرفين. وافق عثمان بعد أنْ وقَّع للرجل الأمين وكالةً يحق له بموجبها التصرَّف كما يشاء لفرط ثقة الحاج بأمانته وراحتْ الأمور تجري بما خططا إلى أنْ أتى ذاتَ يومٍ رجلٌ غريب يُطالب برحيل الحاج والرجل من البستان بعد أنْ ادَّعى شراءَهُ من أحدهم.
فوجِئا من قوله ومما ينوي فعله. وبعد شدٍ وجذبٍ علم الحاج بأن َّالأمين وقَّع على عقد بيعٍ من دون أنْ يدري. لكونه جاهل العلم والمعرفة. ليقع في فخ التاجر النصَّاب،
لم تشفعْ دموعُ الحاج، وحسرةُ ندمهِ بشيء وهو يشدُّ الرحال مفارقاً محبوبتهِ. وهو يُردد:
مِنَ الأمانِ ما هوَ أشدُّ مِنَ القتلِ.
٢٠١٨/١/١٦
هنـــد العميــد/ العـــراق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق