قصة قصيرة
لحظات افتراق
دمدمة رعد قصية ، ونثيث من المطر الأخرس ، يرشق واجهة النوافذ فتطمي الأرض . و لحظات سيتبعها افتراق ، تمر بكل ما تحمل من مفارقات ، بين الإذعان لمقصلة الموت ، وبين البحث عن ملاذ لإنقاذ النفس .
الزوج المهيأ للغياب ، و استلاب الروح ، لم يعد أمامه ، سوى ، البحث عن وسيلةٍ ، لكي يطوي صفحات هذا الطوق الثقيل ، الذي يحزُ رقبته و يضيّق من خناقه ، حيث من الصعب عليه أن يتحمل أبعادعواقبه ، و الذي يهدده بأسوأ النهايات المروّعة .
متابعةُ .. و مضايقةٌ باستمرار . و احتساب الخطوات . و تأويل أي كلام يتفوه به . و الأ ستفسارات البغيضة : أين كنت طيلة غيابك هذه الأيام ؟ و أين خرجت ؟ و من التقيت ؟ و لماذا رفعت يدك للسلام على فلان ؟
كل هذه الاستفسارات كانت قد ضيّقت عليه الخناق بتكرارها الممل ، و قصديتها المهلكة. نغصت مجرى حياته و حياة عائلته، التي هى أساساً مُقَّيدة و مراقبة إلى حد لا يطاق .
بعد أن خابت كل مساعيهم ، لاستدراجه كي يختار أحد الأمرين التاليين ـ إما أن ينتمي لهم ، أو يعمل مخبراً .
وحين يئسوا مما فعلوه من محاولات و مضايقات ، أرسلوا على شقيق زوجه ، و طلبوا منه أن يحرِّض أخته لكي تطلب من زوجها أن يستجيب لأوامرهم ، و إذا رفض فعليها أن تخيِّره : بين أمرين : أما أن يُطلِّق أو يحدث له ما لا يسر . و كانت كلمة ما لا يسر واضحة المعنى لديها و للزوج .
قبل هذه الليلة .. جاء أخوها الكبير ، و لكي لا يلتقي بزوجها ، ألذي لا يذعن لضغوطهم ، جلس في بيت جارتهم و استدعى شقيقته ، و خيّرها بما أوصوه : إما أن يستجيب لرغبتهم أو تنفصل عنه .
قالت له دون أن تبكي كعادتها ، بعد أن أصابها الملل من لومهم ، ، لكي يكونوا أكثر رحمة بها ، و بنبرات واضحة :
ـ عندما تزوجته ، كان ذلك تنفيذا لرغبة والدي الذي كان صديقا لوالده . وهو يعرف كل شيء عنه . و الآن خلفت منه طفلين . فكيف أنفصل؟ أنتم تريدون مني : أن أدمِّر حياتنا و حياة طفْلَيَّ . و منذ أيام الحصار كنت أنام أنا و طفلاي بدون أن نتناول لقمة خبز . و لم تسألوا عني . و الآن تريدوني أن أنفصل عن زوجي تنفيذا لمزاجهم ، و أذهب لأعيش تحت رحمة زوجتيكما .
و بعد أن يئس من استجابتها قال :
ـ قومي معي الآن . أمك تريد أن تراك .
قالت :
ـ اذا أرادتني أمي ، فبابي مشرّعاً . دعوها تأتي بحريتها ، لا تقيدوها ، حرام عليكم .
***
هذه المرة الأولى تجد نفسها متماسكة الأعصاب و جريئة ، أقوى من قدر الدنيا بكل ما اُلقي على كاهلها من قسوة . و لا تذعن لإرادة أخويها و رغبات الضاغطين .
غادر أخوها غاضباً و هو يتوعدها بأنها ستندم و تأتي لبيتهم صاغرة .
كان هذا ما ذكرته لزوجها ، دون أن تخفي شيئاً .
قالت لزوجها :
ـ عليك أن تفكر ألف مرة بمحنتي و شماتة أهلي . فعندما تغيب ابتداء من هذه الليلة ، سيكون أمري و أطفالي في غاية الصعوبة . ولا أدري كيف أدبر حالي .
قال الزوج بعد أن لم تبق لديه حجة :
ـ أمامك طريقين يا (أميرة) . فأنا .. اذا بقيت هنا ، توقعي أنهم سيغيبوني كما جرى للآخرين . و حتى لو ـ استجبتُ جدلاً ـ فليس مضموناً أن أخْلَص من مكائدهم ، كما حدث لأصدقائي حتى لو انتميت ، فسوف أعيش بينهم ذليلاً وموضع تندُّر . و سأكون تحت هاجس من الخوف ان تدبر لي مكيدة و أعْدَم ، كما حدث لصديقي سليم . و لذلك فان الأسلم عاقبة إن أرحل .
لديك ما يكفيك من ذهب ادخرناه للأيام الصعبة . جمعناه و لم نمد أيدينا عليه ، و ها نحن في الأيام الصعبة . إنه يكفيك ، دون أن تمدي يديك لأحد . وعندما أرحل ، سأكون قريباً منكم و سأعود في يوم ما . إستقدمي أمك معك هنا .
عندما أغادرلا تقولي لأحد إنك تعرفين بغيابي . قولي انه خرج و لم يعد ، و عند ذاك سيتوقعون إني قد جرى اختطافي . أرجوك أن تراعي ظروفي فلم أغادرك عن بطرٍ.
***
عندما أحبته ، وهو الخجول ، لم يطلب منها شيئاً ، لا قبلةً و لا أن يلمسها . كان حبهما عذرياً نقياً ، و كانت هي تعلم ذلك ، و راغبة فيه . و تلومه على ذلك عند مداعبته بقصد الملاطفة . فقد كانت ترجوه أثناء لقائهما قبل الزواج : أن يقول شيئاً . أن يُقبِّلُها على الأقل . كانت تكرر ذلك اللوم عليه بعد زواجهما ، و هي بين ذراعيه : لماذا لم يختطف منها قبلة ، حتى لو رفضت هي ؟ و لكن الرغبات و الكلمات التي تمور في صدره تحرن و لا تستجيب .
كان يعرف : انه حتى في أوج غرامه ، لم ولن يتجرأ أن يقول شيئاً . حتى لو اضطر إلى ذلك ، فسوف تتعثر الكلمات . و عندها سيلوم لسانه و يعنفه . فهو لا يريد أن يبدو خجولاً أمامها . كانت تريده أن يبدو أكثر جرأة . إنها تريد شيئاً من هذا القبيل . يتردد في بالها ، لكي تعتبره مغامراً ، حتى لو غامر بحياته في سبيل حبها .
شرعت أصابعه تتلمسان بكل تفاصيل وجهها و جسدها، و كأنه يتعرف عليها لأول مرة .
و كأنه سيفقد كل شيء دون أن يضمن سلامته في هروب محفوف بالمخاطر .
سرح الإثنان لينصتا إلى معزوفة الرعد ، و تناهى لسمعهما تواصل الرشق الكتوم لزخات المطر المتقطعة ، التي تكدّر الأرض و تكدر مزاجهما.
***
كان موعده غير محدد مع أصدقائه : أنما قالوا له : ـ هيّئ نفسك ما بعد الحادية عشر.
صعوبتهم : أن يغادروا مدينتهم و يصلوا إلى المناطق الحصينة .
أما الآن فعليه أن يقضي آخر ليلة معها ، و هي التي أبت أن تتخلى عنه . وضعها على ذراعه و هو شارد الذهن ، يغط بصمت ، فترتسم على ملامحه : انه في محنة . تستسلم هي لرغبته كالطفل . تستجيب لأي حركة بجسدها . طيعة جداً : أن توفر له القناعة بانها له دائماً و بين يديه . و في احتوائه بكل ما يرغب فيه . كانت كأنها تنشد له أُغنية حزينة تعزي نفسيهما على هذا الفراق المفروض .
كان كل شيء يكتنفه الصمت ، سوى دمدمة الرعد البعيدة . و من خلف النافذة ، كان رشق من المطر يضفي على نفسيهما غمام من الحيرة بمجهولية المصير و الكمد .
كل ذلك يجري بصمت . فيستجيبان لسلطان مبهم من الإلتساق ببعضهما عاريين . و يتأملان بقساوة المحنة التي ستفصلهما عن بعض : فيتفانيان لكي تتشابك روحيهما و يتحدان ، بغية أن تزداد قدرتهما على مقاومة الشعور بالهزيمة . كانت قد التسقت تماماً . إيماناً منها أن أية قوة لا توجد في الأرض ، تستطيع أن تسلب أحقيتها فيه .
تضغط بحركة غير مألوفة من قبل . لأنها ستفترق و لا تدري بأحكام القدر القادم ..
إنه يرضى الآن حصراً ، أن تحوله إلى شيء طيّعٍ بين يديها . منحها حرية التسيّد الكاملة ، و تقبَّل بطاعة و إذعان : أن لا يوقفها عن هذا الامتلاك .
إنه بين أمور كثيرة ضاغطة تريد أن تستحوذ على إرادته .. لكنه أبى أن تمتلك إرادته أية قوة سواها .
كان هو يستسلم لرغباتها دون مقاومة . أعطاها الحرية الكاملة أن تتصرف به على هواها .
إنها الآن تريده : كما قررت يوم أن اقترنت به . كان هو قد أرخى جسده بالكامل ، و التزم الصمت و الارتخاء . و ظل يراقب دون فعل يذكر ، انثيالات هيمنتها عليه .
حتى لحظات الاقتران الجسدي ، غابت عن إحساسه وظيفتها المعلومة. بل أحس كأنها لحظات عبادة .
كأن الملائكة تكسوهما ببرقع مقدس ، راكعين أمامهما بخشوع في هذه اللحظات التي منح الله لها كل المشروعية، و لا ينبغي أن تسلب منهما .
أسرعا من بعد ليستحما . ثم تناولا قدحي شاي و استلقيا دون أن يصدر منهما سوى تنهدات .
قال الزوج :
ـ الساعة الآن هي التاسعة مساء ، و عليّ أن أغفو بعض الوقت ثم أهيئ نفسي للرحيل ، تعالي ...
***
أطفآت النور واستسلم هو للرقاد . كانت الزوجة تراقب تردد أنفاسه بأعصاب متماسكة . كانت لا تعرف مصيره في سفره ، فقد لا تكلل بالنجاح و يضيع مصيرها .
***
نهضت لتنظر إلى السماء ،الملبدة بالغيوم ، و ألى الأرض الغدقة. و فكرت بقلق كيف له ان يخرج بهذا الجو الممطر البارد .
إنها مشتتة الأفكار ، فهي لا توافق على رحيله ، و لا توافق على بقائه أيضا ، الحالتان فيهما خطر يقتلع اطمئنانها من جذوره . و لا تعرف من هي الحالة الأفضل لها . إنها أحياناً تفضل أن يبقى بقصد أن يحاول أخويها أن يضمنا سلامته . و لكنهم قد اقتادوا صديقه الذي انتسب إليهم و غيبوه بحجة كونه يعمل خط مائل لصالح انتمائه السابق ، ثم جرى اعدامه . و لم يجدِ بحث ذويه عنه و أنكروا هم معرفتهم بمصيره . و لذلك هي لا تعرف أي حال ترتضيه . في بقائه أم رحيله .
عادت و استلقت جنبه . كانت ترغب أن تأخذ لها غفوة قبل أن يستيقظ ، لكن عينيها أبتا أن تخلدا للنوم .
فجأة سمعت صوت ارتطام عنيف لقدمين تهبطان من الجدار بقوة داخل فناء البيت، ثم تلا ذلك قفزة ثانية . هزت زوجها بعنف :
ـ ربما رجلان قفزا من السياج داخل البيت .
اقترب الزوج من النافذة . أزاح القليل من الستارة . ثمة رجلان يحملان مسدسين قرب الجدار المؤدي لجارتهما ويشرئبان صوب بيتها. ثم ارتطام مدوٍ ربما أدى إلى قلع باب الجارة الخارجي . و كذلك الباب المؤدي للداخل ، و صراخ مخنوق لإمرأة . ثم يأمرها أحدهم أن تلتزم جانب الصمت .
و استمر صخب الأواني و الآثاث وهي تتناثر ، ثم هدأ كل شيء .
بعد مرور بعض الوقت انسحب الاثنان الموجودان في ساحة منزلهما .
كان الزوج مرتبك المزاج و زوجته في حالة من الهلع . و كانت تضع أصابعها المرتعشة على فمها ، و تنظر لزوجها مذعورة .
قال الزوج :
ـ إهدئي .. يبدو إني لم أكن المقصود .
قالت الزوجة :
ـ يجب أن ترحل بأسرع وقت . من الذي يضمن أنهم لن يعودوا إليك الآن ؟ أين أصدقائك ؟
كان الزوج يحتمل أن يحدث ذلك . فهو مهدد مباشرة . و عليه أن يتوقع اختطافه .
طرقات حادة على الباب ...
***
قال الزوج :
ـ ما هذا ؟ هل أنا المقصود أيضاً؟
ـ ابو نبيل ؟ أبو نبيل؟
جارتهما تنادي عليه. سأل زوجته :
ـ هل إذهب لها ؟
قالت الزوجة :
ـ لا .. إبق في مكانك ، فأنت على أبواب سفر .
تلفعت بغطاء على رأسها لتتحاشى قطرات المطر، فتحت الباب قليلاً . كانت الجارة تقف أمامها باكية :
ـ أخذوا أولادي . أين أبا نبيل ؟
ـ نعم سمعت ما حدث لديكم . أبو نبيل سافر قبل قليل .
قالت الجارة :
ـ إذن ماذا أصنع ؟
قالت لها ام نبيل :
ـ ألأفضل أن تجلسي في بيتك و تنتظري رحمة الله . إذهبي ، ربما يعودان بعد قليل .
عادت الجارة إلى بيتها خائبة . بينما الزوجة أحكمت اغلاق الباب الخارجي .
جلست أمام زوجها :
ـ هيئ نفسك للسفر .. لا بقاء لك هنا . أما أنا فلن أموت جوعا . رغم أنف أهلي سيدبرون أمري .
ـ دع أمك تأتي معك و تصرفي بالذهب.إياك أن تمدي يدك لأحد .
***
ما أثقل الوقت؟
كانت قفزات عقرب الثواني ، قد ترنحت ثقيلة الخطى ، كأنها تأبى أن تمر بنقلاتٍ منصفة . كأنها هي التي تقرر مصيرهما . و كأنها هي التي تمعن في نفاذ صبرهما ، بين أن يُخْتَطف كما هو حال جيرانه ، أو يرحل عاجلاً .
لم يمض وقت طويل حتى طُرِق الباب عدة مرات ؟
كان هناك حذر من هذا الطرق و صوت يستدعيه بما هو أشبه بالهمس ...
ـ أبا نبيل .. أبا نبيل .. أنا أبو أنوار .
أَسرَعَ أبو نبيل و فتح الباب :
: هل هيأت حقيبتك ؟ إسرع يا أخي ، و تعال بسرعة . السيارة بانتظارنا . السائق يقول يجب أن نتهيأ الآن . . هيا .
كانت زوجته ، تقف وراءه وهي تقول له :
ـ قبل أطفالك و أخرج فوراً . أما أنا فلا تخشى عليّ . سأكون في الصباح في أحسن حال ومتحررة من الخوف و مطمئنة على مصيرك . قَبّلَهما و ارحل . صحيح سأبكي كثيراً ، و لكني سأكون مطمئنة ألف مرة ، من بقائك هنا و أنت في خطر .
كانت أمامها آخر لحظة أن تعانقه و يفترقان . ثم أوصته و هي تحمل حقيبته :
ـ إبعث لي خبر مع السائق عند وصولك سالماً .. إعتن بنفسك .
موسى غافل الشطري
26/6/2020
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق