أضعف الإيمان (قصة قصيرة) بقلم الاستاذ الاديب فيصل سليم التلاوي

. . ليست هناك تعليقات:
أضعف الإيمان
قصة قصيرة
بقلم: فيصل سليم التلاوي

كعادته يُبكر عبد الحميد إلى موعده الدوري في عيادة السكري مرةً كل ثلاثة أشهر، ليظفر بموقف لسيارته أولا، ثم بمقعد يريح عليه بدنه قبل أن تغص صالة الانتظار بالمراجعين، فلا تجد فيها موطئا لقدم. ومع كل حرصه على التبكير الذي يسبق الدوام بساعة على الأقل، إلا أنه يجد عشرات من المراجعين قد سبقوه. يضغط على آلة الترقيم ويأخذ له رقما متسلسلا، وبصعوبة بالغة يجد لنفسه مقعدا بين المقاعد القليلة التي لم تزل خالية.
يسأل عبد الحميد نفسه:
- منذ متى حضر كل هؤلاء؟ وعلامَ يتسابقون مبكرين ما دامت المراجعة تبعا للدور بكل مراحلها؟ مِن أخذ الرقم، فانتظار الكشف الأولي، فمراجعة المختبر، ثم مقابلة الطبيب، فالمحاسبة، ومراجعة الصيدلية لاستلام الدواء، ثم أخذ موعد جديد. كل ذلك يستغرق وقتا بين الساعتين والثلاث ساعات مهما تقدمت في حضورك أو تأخرت.
كان النهار صيفيا حارا ينفث سَمومه من أوله، والريح الهائجة تثير في الخارج غبارا يزكم الأنوف ويلهب العيون.
جلس عبد الحميد وهو يخمن أن ساعة قد تمضي بعد بدء الدوام حتى يصله الدور، ويبدأ خطوته الأولى. اكتظت الصالة بالمراجعين الواصلين تباعا، حتى صار الواقفون أكثر عددا من الجالسين. زادت أنفاسهم وزفرات انتظارهم الجو حرارة وسخونة، لولا مكيف هواء يتيم ينفح الصالة ببعض نسمات باردة رطبة، تخفف قليلا مما يكابده هؤلاء المنتظرون من ضيق ونفاد صبر وحرارة.
طال على هؤلاء الأمد وهم يحدقون في ساعاتهم، ولما تبلغ الثامنة بعد، ليبدأ النداء على الأرقام بالتتابع، عندما نهضت امرأة بدينة من مقعدها وأدارت ظهرها لجميع الحاضرين، وتوجهت صوب النافذة المجاورة لها ففتحتها على مصراعيها، ثم استدارت منتشية مواجهة لجمهور الجالسين، تهف بيسراها على وجهها وصدرها كمن يستمتع باستجلاب الهواء ليبرد به نفسه، وعادت متمايلة إلى جلستها الأولى.
تململ كثير من الجالسين في مقاعدهم، ونظر بعضهم ذات اليمين وذات الشمال، كأن كل واحد يستنكر ما حصل، ويحث جاره ليكون البادئ بالاعتراض، ويقينا أن كل واحد منهم كان يتمتم بينه وبين نفسه:
- ما جدوى مكيف الهواء مع شباك مفتوح على مصراعيه للحر والغبار؟
كرروا تبادل النظرات لكن أحدا لم ينبس ببنت شفة. تجهمت وجوه بعضهم تعبيرا عن استنكارها لما حدث، ولبثت على تجهمها حينا كأنما رأت منكرا وأرادت تغييره، لكنها همست في أعماقها:
- (... فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)
ضاعت نسمات مكيف الهواء أمام فحيح الهواء اللافح الممتزج بالغبار، الذي يأتي من النافذة، وواصل الجالسون تسمرهم على مقاعدهم كأنهم خُشُبٌ مُسنَّدة، وعيونهم مشدودة إلى شاشة تلفاز عملاقة، تقدم تمارين رياضية تعليمية لمرضى السكري، لتساعدهم على حرق مخزون السكر الزائد في أجسامهم.
يؤدي تلك التمارين رجل وامرأة بطريقة فنية جذابة، هي أقرب إلى الحركات الإيقاعية الراقصة منها إلى الرياضة، ويمكن أن يؤديها كل شخص بمفرده في منزله.
كان الجالسون في غاية الانسجام والمتابعة، إذ لا تسلية أخرى يُزجون بها وقت انتظارهم، عندما نهض من وسط الصالة ذلك الرجل بلحيته الكثة، واتجه صوب الشاشة ضاغطا على زر التشغيل ليقفله، ثم ليعود إلى مكانه نافخا صدره منتشيا كأنما هو عائد من غزوة مظفرة.
تململ الجالسون في مقاعدهم، وحرك الواقفون أقدامهم خطوات تبادلوا بها أماكن وقوفهم، ونظر كل واحد يمينا وشمالا، وتشجع بعضهم أكثر من غيره فمد نظره أماما وخلفا، ولم ينبس أحد بنت شفة مرة ثانية، وهمهم كل منهم بينه وبين نفسه:
- ( من رأى منكم منكرا فليغيره....فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان).
ظلت العيون مبحلقة في الشاشة المطفأة، ونسيت النافذة التي أشرعت قبل حين. وواصل عبد الحميد رواية مشاهداته لذلك اليوم قائلا:
- لفت نظري مراجع جديد دخل الصالة لتوه، رجل في منتصف العمر، بدت عليه سيماء الرزانة والوجاهة، توجه من فوره صوب الموظفة ليقدم لها ملفه. شدتني نحوه هيئته ومهابته، فأردت أن أصنع له خيرا بأن أدله على مكان آلة الترقيم، لأدخر بعض وقته الذي قد ينقضي قبل أن يأخذ رقما، وقد يسبقه آخرون جاؤوا بعده، فأشرت له صوب الآلة فتجاهل إشارتي، وواصل طريقه صوب الموظفة ليناولها ملفه.
عندما خاطبته الموظفة المختصة:
- خذ رقما وانتظر دورك. أدار لها ظهره.
وعندما أصررت على مواصلة تطوعي في تقديم الخدمة المجانية له، وتقدمت نحوه لأدله على موقع آلة الترقيم، التفت إليَّ بطرف عينه، وأراني الرقم الذي كان يطبق يده اليسرى عليه، وأدار لي ظهره ومضى.
مثله تماما فعلت امرأة دخلت بعده بلحظات، وتوجهت من فورها للموظفة المختصة، وتطوعت امرأة لتقدم لها خدمة فتدلها على آلة الترقيم والدور، مثلما تطوعت قبلها بتقديم خدماتي المجانية للرجل ذي الهيئة والهيبة، فأخرجت لها الرقم من حقيبتها لتريها إياه ثم لتشيح بوجهها عنها.
تعلمت بعدها أن أكف عن متابعة الداخلين والخارجين، وواصلت صمتي.
عندما ردد النداء الآلي رقم 42 ولملمت نفسي للحاق بدوري، كان جاري الذي على يميني، والذي تبادلت معه النظرات المستنكرة مرتين قبل قليل قد نهض أيضا، و بينما توجهت إلى غرفة الطبيب، رأيته يتوجه صوب الشباك المجاور له، فيفتحه على مصراعيه، ليملأ رئتيه بالهواء الطبيعي الآتي من الخارج، وخمنت أن جميع من في الصالة قد عاودوا تبادل النظرات، وربما زاد الجالسون تململا في مقاعدهم، وزاد الواقفون من حركة أقدامهم، ويقينا أن كلا منهم قد حدث نفسه بحكاية أضعف الإيمان. بينما ضاعت نسمات المكيف اليتيم بين سموم الهواء الحار والمغبر، الذي تنفثه النافذتان المشرعتان عن يمينه وشماله، وظلت الشاشة المطفأة تبحلق في عيون المشاهدين الصامتين، واستمر كل داخل جديد يأخذ رقما ويدسه في جيبه احتياطا، بينما يحاول أن يحشر نفسه متخطيا دور غيره ما أمكنه ذلك.
8/10/2012




ليست هناك تعليقات:

آخر الأخبار

3efrit blogger


أنا أبنك ياعراق وعاشگك حد الجنون لو تخون الدنيا كلها لا تظن أبنك يخون . أنا عــراقـي

تابعونا على الفيس بوك


مؤسسة السياب الإليكترونية تجمع ثقافي عربي بلا حدود

هل تعلمين .. وأنا أبحثُ عنّي ؟! كنتِ هنا فأكتفيتُ بأنكِ امرأتي التي حلمتُ بها لأرتديها قصيدة وألوّنها بالحروف . منى الصرّاف / العراق

# إبتسم .. الدنيا متسوه - ما إجتمع أربعة رجال بمكان واحد إلا وكانت النار وراء أفعالهم ! وما إجتمعت ثلاثة نساء بمكان آخر إلا وأحرقنّ الرابعة الغائبة ! منى الصرّاف / العراق

مؤسسة السياب للثقافة والآداب

مؤسسة السياب للثقافة والآداب

كل عام والمرأة اينما كانت بالف خير انتم نحن .. بعيدا عن فوضى الهويات .. نسكن الارض نفسها ونتنفس الهواء ذاته انه التعايش الانساني المشترك .. تجاوزنا حاجز الثقافة واللغة واسسنا لغة الجمال .. ( بقليل من الطين وكثير من الحب هكذا تصنع الاوطان ) منى الصرّاف / العراق

من منّا حين عجزت أدواته لم يحلم بفانوس سحريّ أو بساط طائر لتحقيق أمنياته ليصحو بعد ذلك لعيش قسوة الحياة ، كيف باستطاعتنا الدخول في معركة بمفردنا نعرف سلفا سنخرج منها بخسارة كبيرة ، حتى لو امتلكنا الشّجاعة لمطاردة أحلامنا ، فكيف نصل الهدف دون معرفة أدواته ، فللشجاعة أيضا أدواتها ، حين تكون اليد خالية فأحلامنا سرعان ما تذبل ، أمّا البطولة فهي تحدث فقط ! دون التخطيط لها . منى الصرّاف / العراق من رواية ( للعشق جناحان من نار )

روايتي ( بتوقيت بغداد ) وفي اول طرح لها في بغداد بعد مشاركتها في العديد من المعارض الدولية الصادرة عن دار النخبة في جمهورية مصر العربية ومجموعتي القصصية ( للخوف ظل طويل ) في طبعتها الثانية الصادرة عن دار كيوان في سوريا ستجدونها في بغداد - شارع المتنبي - مجمع الميالي في دار ومكتبة ... ( الكا ) للنشر وبامكان الدار ايصالها لاي شخص يرغب من المحافظات العراقية حين الاتصال بهاتفهم المعلن على واجهتها . الكاتبة والشاعرة منى الصراف

مجلة السياب الليكترونية / قــسم الارشيف

آخر المشاركات على موقعنا

لـــوجـه ابي بقلم الاستاذ الأديب جاسم العبيدي

أهلاً وسهلاً بك أنت الزائر رقم

الصفحة الرئيسية

مـن أجـل سـلامـتـك .... بـس خـليـك بالـبيت 🙆🙋🙇👫

مـن أجـل سـلامـتـك .... بـس خـليـك بالـبيت        🙆🙋🙇👫
نصائح للجميع حول الوقاية من جائحة كورونا: ١- أهمية التباعد الإجتماعي كون فيروس كورونا لم يثبت الى اليوم انتقاله عبر الهواء لذا خليك بالبيت وعند اختلاطك بالناس إحرص ان تكون المسافة بينك وبين الاخرين من متر ونص الى مترين . ٢- غسل اليدين بالماء والصابون بإستمرار ولمدة 40 ثانية عند خروجك من الأسواق والأماكن العامة وتجب ان لا تلمس وجهك أثناء وجودك بالأماكن العامة ، ويفضل عند تواجدك بالأماكن العامة أن ترتدي قفازات عند دخولك البيت يجب وإزالتها . ٣- لست بحاجة إلى ارتداء الكمام الطبي إلا اذا كنت تعاني من العطس او عندك شكوك أنك مصاب بفيروس كورونا ، ولكن يفضل إرتدائها عندما تكون في الأسواق والأماكن العامة حتى تتجنب لمس وجهك دون إدراكك على أن يتم رميها والتخلص منها قبل دخولك البيت وانتبه أن تكون إزالتها عن الوجه بالطريقة الصحيحة حتى تتجنب ملامسة اليد لها وذلك عن طريق رفع الخيط المتصل بالأذن اليسرى بإستخدام اليد اليمنى وسحبها باتجاه الإذن اليمنى أو العكس بالعكس دون ملامسة الوجة الخارجي للكمامة. ٤- إحرص على غسل مقابض أبواب البيت الرئيسية بالماء والصابون عند دخول أي فرد من أفراد العائلة.

About the site to your language

مساحة إعلانية

شروط النشر في مجموعتنا على الفيس بوك

1- يمنع منعاً باتاً مشاركة المنشورات والفديوات في النشر ولوحظ بعض المسؤولين والمشرفين بممارسة هذة الممارسه الخاطئة للاسف يمنع منعاً باتاً منح الموافقات للمنشورات الطائفية والتي فيها تجاوزعلى الذات الالهية والرموز الدينية والتاريخية ومنشورات الاعلانات التجارية 2- يمنع نشر بطاقات التهنئة للمناسبات الدينية والوطنية وتحية الصباح والمساء الامن قبل رئيس مجلس الادارة ومدير التحرير للمجلة ومن ينوبهما فقط 3 -تحدد المنشورة بمنشور واحد فقط للعضوا في اليوم اعتباراً من هذا اليوم1تموز2017 واثنين للمسؤولين والمشرفين تقديراً لجهودهم على الجميع الالتزام بما ورد اعلاه مع الشكر والتقدير للجميع . الاستاذ الأديب الشاعر ماجد محمد طلال السوداني مستشار مؤسسة مؤسسة السياب اليكترونية للادب والثقافة والمشرف الاداري العام للمؤسسة والمسؤول عن تنفيذ سياستها

مساحة إعلانية

مؤسسة السياب للثقافة والآداب للمزيد من المعلومات والاستفسار الإتصال بنا على الهاتف مراعاة الرمز البلد(العراق) 00964 07803776116

تــــنويــة

كاريكاتير اليوم

كاريكاتير اليوم