أصل الحكاية
ولادة فكرة
مر بي صديقي يوما و أنا منهمك في إصلاح آلة التسجيل [المسجلة كاسيت] .. تبسم، و بشيء من دعابة قال: يا رجل نحن الآن في زمن الهواتف النقالة الذكية، و قد تخطينا زمن آلة التسجيل هذه منذ أمد بعيد، فيما أنت لا تزال تشغل نفسك بإصلاحها تريد ان تعيد لها الحياة !
تبسمت، و قلت: إن لي في ذلك حكاية ..
و ها أنا ذا أضع بين أيديكم أيها السادة و السيدات أصل الحكاية
في العام /1988/ كنت أستمع إلى المذياع/الراديو/ خلال فترة الظهيرة أثناء حصة الغداء [ لم يكن "التلفزيون" يومها يبث برامجه في فترة الظهيرة] إذا بي رأيتني تأسرني حلقة تذاع في تفسير للقرآن الكريم، لم يكن كأي تفسير ! بل كان رائعا بكل معنى الكلمة، حيث وجدت فيه العلم و الفكر و البلاغة و البيان و حسن التوجيه، و عظمة اللغة و قدرتها على سباحة في أعماق النفس و خلجانها، و زاد من جمال هذا التفسير أن صاحبه بالذات يلقيه على مستمعيه فتخرج الكلمات منه بديعة و متقنة اللفظ.
[ عرفت فيما بعد أن المفسر هو من عباقرة اللغة العربية في العصر الحديث، و أنه عضو في مجمع اللغة العربية في القاهرة، و أنه رجل موسوعة من العلم و الثقافة، و أنه على غزارة في التأليف و النشر، و بالذات في موضوعات اللغة العربية و تأصيلاتها]
و فيما كنت أستمع إلى حلقة التفسير تلك قلت في نفسي إنه من الخطأ أن أدع مثل هذه الحلقات تمر مني مرور الكرام دون أن أهتم بها أكثر و أكثر .. و عزمت على تسجيلها عبر "الكاسيت" و من ثم أقوم بتفريغها على الورق كي أتمكن من مراجعتها على روية
و كتبت على إثر ذلك ما يعادل ثمانية مجلدات من القطع الكبير، كلها بخط اليد .. فكان ذلك أن زاد من ثقافتي اللغوية من جهة و فهما في التفسير من جهة ثانية، و قدرة ممتازة على حل المعضلات من جهة ثالثة، بل و أكثر من ذلك فإن مقدرتي على التحليل و الاستنباط و الاستنتاج و تقليب وجهات النظر ارتقت جراء ذلك عندي إلى أعلى مستوياتها، و هذا ما جعلني أحاور الأمور بكثير من الحنكة و الوعي و الدراية و العمق.
و في العام /1991/ توقفت الإذاعة عن بث ذلك التفسير لأسباب أجهلها؛ غير أني لم أتوقف منذ ذلك التاريخ عن مراجعة ما تم تسجيله و تدوينه، و الحق أقول أنني لا أزال حتى الآن استمتع و أكتشف أشياء جديدة في ذلكم التفسير المبارك
[ للاستدراك: 1- لم أشأ ذكر اسم صاحب التفسير و ذلك خشية الاسقاطات التي برعت بها مجتمعاتنا ! و ما ينجم عن تلك الاسقاطات من مواقف غبية
2 - قد كنت أختلف مع المفسر في بعض آرائه، و لكن حسبي من ذلكم التفسير تلك الطريقة و ذلك المنهج الذي سار عليه، و الذي ساهم بشكل رائع في تفتيح و توسيع مداركي
3 - لقد ساهم هذا التفسير في توليد فكرة كتابي "نظرية النطق" الذي شرعت بتأليفه بدءا من العام /2005/ و حتى العام /2014/ و لا يزال مخطوطا غير مطبوع ]
لقد كانت الأعوام الثلاثون التي مضت على تسجيل حلقات التفسير تلك كافية كي تغدو أشرطة "الكاسيت" تلك بالية، الأمر الذى دفعني للانهماك بإصلاح آلة التسجيل باعتبار أنه لم يعد ثمة من يقوم بهذا العمل من أصحاب المحلات.
إنه مما يؤسفني بعد أن غدوت على خبرة رجل كهل، شذبته الحياة و غدا على وعي بمجرياتها، أن يأتي أحدهم - ربما كان من جيل أبنائي - يطلب مني أن أقرأ كتب الفلسفة بإمعان من قبل أن أخرج بكتابي الذي ذكرت لكم آنفا و الذي سأحدثكم عنه لاحقا .. و الله المستعان
- و كتب: يحيى محمد سمونة -
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق