لا أريد أن أكون نجمة في السماء // بقلم الاستاذ فؤاد حسن محمد

. . ليست هناك تعليقات:

لا أريد أن أكون نجمة في السماء

لم يكن بمقدورنا أنا وأمك أن نمنعك أن تولدي ، ففي ليلة أكتمل فيها القمر   رأت أمك في المنام  الشيخ أحمد  يبشرها بأنثى، وليس الذكر كالأنثى ، والمشبه به أعظم كمالا ،  إن العالم يدور يضع  بنتا هنا وولد هناك ،أنا أقول كنت ِ قطرة ماء تتلألأ في شفق السماء ، وإذا لم تكوني موجودة فلا معنى لمجيئك ، لا أعرف كيف أشرح لك ، وأنت ِ لا تفهمين ما أريد أن أقوله أن أحدا غيرك لن يأتي في تلك اللحظة وفي ذلك الزمان .
قلت لأمك سأسميها فاطمة ، كل النساء تطلق أسماء على أبناءها ، لكني أشك أن اسما مثلها يحمل صفة ملائكية ،  إن تاريخ العالم يفقد إنسانيته لولا وجود البتول فاطمة ،بالتأكيد إن المرء يشعر بنفسه عندما يفكر ، في كل الأحوال أن تولد في الحرب هو امتحان قدرتك على أن تكون  إنسان ،ولسبب ما يصبح مجيئك انتصار على ممالك اصطياد الأطفال بالطائرات .
في مشفى نبع الفوار ولدتِ كان صوت بكاءكِ يعلو على ضجيج طائرة حربية مزقت جدار الصوت، وفجأة تملكني إحساس بأن الممرضة التي تحملك قد تسرقك ، أو تستبدلك بطفلة أخرى ، فلازمتك وهذا يعني إني منذ الآن سأكون معك .
مدتك الممرضة برفق وحرص شديدين على سرير خشبي ، تحت ضوء المصباح ، قالت لي وهي تدغدغ خدك بإصبعها ، وابتسمت لاستجابتك وأنت تحركين فمك لتلقمي إصبعها    :
- إنها تتضور جوعا ...سأجلب لها ماء وسكر ، وأردفت :
ـ الأطفال شرهون للأكل
رافقت الممرضة بعيني ألقصيرتي النظر ، وأنا أتفحصك عضوا تلو الأخر ، وجهك منتفخ و مزرق  قليلا من عملة الولادة  ، بجوارك تستلقي أمرأة أغمضت عينيها بقوة ، متعبة منهكة ، ترسمك في مخيلتها مرارا قبل أن تستيقظِ.
عادت الممرضة بزجاجة الرضاعة مملوءة بمحلول السكر ، لقمتك حلمتها ، استمتعت ِ بهذيان السكر في فمك . قالت الممرضة:
- الأفضل أن تجزيء الرضعة على مدار اليوم كي تتحرك أمعاءها .
لا تحب الممرضات  أن تعاملهن كخادمات ، يقلن ، ذلك سيجعلهن غير لطيفات في تعاملهن ، قلت له :
- شكرا لك ...أنتِ تبذلين جهدا لا يقدر بثمن
قالت لي مبتهجة ،بعد أن دسست في يدها مبلغ من المال :
-تحت أمرك ...إذا احتجت مساعدة نادي لي
غبطة غامرة تطوق حواف القلب  ،ترتعش في العينين ، خلت نفسي أقفز إلى الأعلى من فرط الفرحة . أتنفل بين حافة سريرك وشرفة الغرفة ، بل أتنقل بين رائحة عطر الطفولة ، ورائحة الشارع وماذا يوجد في الأسفل إلا روائح مخلفات الإنسان .
في منتصف الجدار علقت صورة لطفل أشقر وجهه أبيض وادع ،عيناه واسعتان  زرقاوان  ، يريدون منا أن نتلاشى في سلالة العرق البيض  ، لا يكبر أحدا في الصورة ، سيبقى هكذا بدون حركة إلى الأبد ، أما أنا أريدك أن تكبري أمام عيني .
كنتما مستغرقتين أنت وأمك بنوم عميق ، هي بجسدها المتهالك تحت وجع العملية وأثر المخدر ،وأنت تحت وجع الخروج من العدم إلى الوجود، مر عليكما الطبيب سريعا ، الواحدة منكما ذكرى أو حلم للثانية .
سألت الطبيب الذي يبدو أصغر من سنه بمريوله الأبيض :
-  متى تستيقظ من المخدر .
ابتسم بثقة طبيب خبير " نصف ساعة ..الحمد لله الوضع جيد " وخرج.
تهاويت جالسا على حافة السرير ، أتأملكما حُبيَن وأٌشرد ،أحرك عقارب الساعة إلى الأمام ،أَدفع الزمن إلى تخوم حافته ، تركب روحي الأيام ، فأقع في الشرك ،أرسمك في مخيلتي ، أبعد عنك مالا أرغب فيه، الخيال لا يصنع واقع ،فأنا مترع بالخوف ، هل تصدقين إذا قلت لك الحقيقة ، تلك هي الحقيقة ، أنا أهرب من واقع مليء بالألم ، واقع يصعب أن أقوله لك " الحياة قاسية "
معجزة أن تتواجد في مكانين وزمنين باّن واحد  ،شيء مستغرب أن يقلع الزمن إلى الأمام بينما أنت ترجع إلى الخلف ، أو العكس ،ضلالة خاطئة ، هراء ،  هلوسات ، أعلو إلى قمة الحلم ، ثم أهوي متدحرجا إلى قعر واد الذهان السحيق ،ولهنيهة ألمح وجهك على زجاج النافذة ، إنه الحلم نفسه  ،  عمرك خمس سنوات ،أجلس أنا وأنت على المصطبة وفوق رأسينا تزدحم النجوم ، حولنا سبعة أصص من ورد الجوري ، في هذا الهزيع من الليل تفتح الذكريات أجفانها ، تغادر العقل باتجاه الوراء ، كانت أمك قد ذهبت إلى المطبخ لتغلي لنا الشاي ، أنا أجلس على إسمنت المصطبة لا أعرف لماذا ،سألتني أول سؤال حميمي :
- لماذا أسميتني فاطمة ؟؟؟
كنت تودين لو كان لك اسم عصري ، جولييت ، هيلدا ، كاترين ، فالطفل تساوره الشكوك ويظن أن اسمه يجلب له الحزن . شيء ما أنبأني أنكِ في حيرة ، عندئذ عرفت أنه يجب أن أبدد مخاوفك ، قلت لكِ :
- سأحكي لكِ قصة الطفلة التي سرقوها من أهلها .
كنت يومها في كراج جبلة ،أمشي وأنا ألبس حذائي الجديد ، وفجأة دوى انفجار رهيب ، قسم السماء من أقصاها إلى أقصاها ، مات ناس كثيرون مثل الذباب ، تطايروا أشلاء في الهواء وتبعثروا نتفا من لحم ودم ،  ماتوا قبل أن يصرخوا ، ركضت مع من ركضوا إلى داخل الكراج ، فرأيت رجلا يدق الأرض بقدميه وهو يجأر مثل عجل في المسلخ  شاخصا بعينية إلى السماء:
- فاطمة ... أريد فاطمة  .
ثم ركع وراح يلطم وجهه،مددت يدي إلى عظم كتفه ،أنهضته برفق ،قلت وأنا أبادله الحزن بالحزن  :
- تعال يا أخي  نبحث عنها قد تكون حية ترزق
جسده مملوء بالوهن والارتخاء ، وروحه مخنوقة من سحب وجع الصراخ ، مشينا فوق عظام عارية ، ونحن ندوس فوق الأرض المملوءة بالأصابع والأقدام المبتورة ،وفرو الرؤوس والمصران وبقع الدم ، انهار الرجل بسرعة مخيفة أمام رأس طفلة  لم تلتقط شفتيه صرختها الأخيرة
- وداعا يابابا
تمنيت أن أعانقها ، أداعبها ، أتعرفين ماذا كانت هذه الطفلة مني ، أن أضع يدي بيدها ، لكني عانقت والدها لأحجب عنه فظاعة المشهد،الأطفال لا يموتون ، إنهم يدهشون  ، يصيرون نجوما في السماء .
سألتِني ببراءة
- لماذا قتلوها ؟؟
قلت لك :
- لأن اسمها فاطمة و أسم فاطمة مقدس ...منذ الف سنة وأكثر قتلوا أيضا شابة أسمها فاطمة
- وأين هي الآن
- أصبحت نجمة في السماء
طفرت من عينيك ِ دمعة كبيرة ، ولفتني يداك الصغيرتان وشفتاك تلتقطان كلمات متقطعة :
- بابا لا أريد أن أكون نجمة في السماء
فؤاد حسن محمد- جبلة - سوريا

ليست هناك تعليقات:

آخر الأخبار

3efrit blogger


أنا أبنك ياعراق وعاشگك حد الجنون لو تخون الدنيا كلها لا تظن أبنك يخون . أنا عــراقـي

تابعونا على الفيس بوك


مؤسسة السياب الإليكترونية تجمع ثقافي عربي بلا حدود

هل تعلمين .. وأنا أبحثُ عنّي ؟! كنتِ هنا فأكتفيتُ بأنكِ امرأتي التي حلمتُ بها لأرتديها قصيدة وألوّنها بالحروف . منى الصرّاف / العراق

# إبتسم .. الدنيا متسوه - ما إجتمع أربعة رجال بمكان واحد إلا وكانت النار وراء أفعالهم ! وما إجتمعت ثلاثة نساء بمكان آخر إلا وأحرقنّ الرابعة الغائبة ! منى الصرّاف / العراق

مؤسسة السياب للثقافة والآداب

مؤسسة السياب للثقافة والآداب

كل عام والمرأة اينما كانت بالف خير انتم نحن .. بعيدا عن فوضى الهويات .. نسكن الارض نفسها ونتنفس الهواء ذاته انه التعايش الانساني المشترك .. تجاوزنا حاجز الثقافة واللغة واسسنا لغة الجمال .. ( بقليل من الطين وكثير من الحب هكذا تصنع الاوطان ) منى الصرّاف / العراق

من منّا حين عجزت أدواته لم يحلم بفانوس سحريّ أو بساط طائر لتحقيق أمنياته ليصحو بعد ذلك لعيش قسوة الحياة ، كيف باستطاعتنا الدخول في معركة بمفردنا نعرف سلفا سنخرج منها بخسارة كبيرة ، حتى لو امتلكنا الشّجاعة لمطاردة أحلامنا ، فكيف نصل الهدف دون معرفة أدواته ، فللشجاعة أيضا أدواتها ، حين تكون اليد خالية فأحلامنا سرعان ما تذبل ، أمّا البطولة فهي تحدث فقط ! دون التخطيط لها . منى الصرّاف / العراق من رواية ( للعشق جناحان من نار )

روايتي ( بتوقيت بغداد ) وفي اول طرح لها في بغداد بعد مشاركتها في العديد من المعارض الدولية الصادرة عن دار النخبة في جمهورية مصر العربية ومجموعتي القصصية ( للخوف ظل طويل ) في طبعتها الثانية الصادرة عن دار كيوان في سوريا ستجدونها في بغداد - شارع المتنبي - مجمع الميالي في دار ومكتبة ... ( الكا ) للنشر وبامكان الدار ايصالها لاي شخص يرغب من المحافظات العراقية حين الاتصال بهاتفهم المعلن على واجهتها . الكاتبة والشاعرة منى الصراف

مجلة السياب الليكترونية / قــسم الارشيف

آخر المشاركات على موقعنا

لـــوجـه ابي بقلم الاستاذ الأديب جاسم العبيدي

أهلاً وسهلاً بك أنت الزائر رقم

الصفحة الرئيسية

مـن أجـل سـلامـتـك .... بـس خـليـك بالـبيت 🙆🙋🙇👫

مـن أجـل سـلامـتـك .... بـس خـليـك بالـبيت        🙆🙋🙇👫
نصائح للجميع حول الوقاية من جائحة كورونا: ١- أهمية التباعد الإجتماعي كون فيروس كورونا لم يثبت الى اليوم انتقاله عبر الهواء لذا خليك بالبيت وعند اختلاطك بالناس إحرص ان تكون المسافة بينك وبين الاخرين من متر ونص الى مترين . ٢- غسل اليدين بالماء والصابون بإستمرار ولمدة 40 ثانية عند خروجك من الأسواق والأماكن العامة وتجب ان لا تلمس وجهك أثناء وجودك بالأماكن العامة ، ويفضل عند تواجدك بالأماكن العامة أن ترتدي قفازات عند دخولك البيت يجب وإزالتها . ٣- لست بحاجة إلى ارتداء الكمام الطبي إلا اذا كنت تعاني من العطس او عندك شكوك أنك مصاب بفيروس كورونا ، ولكن يفضل إرتدائها عندما تكون في الأسواق والأماكن العامة حتى تتجنب لمس وجهك دون إدراكك على أن يتم رميها والتخلص منها قبل دخولك البيت وانتبه أن تكون إزالتها عن الوجه بالطريقة الصحيحة حتى تتجنب ملامسة اليد لها وذلك عن طريق رفع الخيط المتصل بالأذن اليسرى بإستخدام اليد اليمنى وسحبها باتجاه الإذن اليمنى أو العكس بالعكس دون ملامسة الوجة الخارجي للكمامة. ٤- إحرص على غسل مقابض أبواب البيت الرئيسية بالماء والصابون عند دخول أي فرد من أفراد العائلة.

About the site to your language

مساحة إعلانية

شروط النشر في مجموعتنا على الفيس بوك

1- يمنع منعاً باتاً مشاركة المنشورات والفديوات في النشر ولوحظ بعض المسؤولين والمشرفين بممارسة هذة الممارسه الخاطئة للاسف يمنع منعاً باتاً منح الموافقات للمنشورات الطائفية والتي فيها تجاوزعلى الذات الالهية والرموز الدينية والتاريخية ومنشورات الاعلانات التجارية 2- يمنع نشر بطاقات التهنئة للمناسبات الدينية والوطنية وتحية الصباح والمساء الامن قبل رئيس مجلس الادارة ومدير التحرير للمجلة ومن ينوبهما فقط 3 -تحدد المنشورة بمنشور واحد فقط للعضوا في اليوم اعتباراً من هذا اليوم1تموز2017 واثنين للمسؤولين والمشرفين تقديراً لجهودهم على الجميع الالتزام بما ورد اعلاه مع الشكر والتقدير للجميع . الاستاذ الأديب الشاعر ماجد محمد طلال السوداني مستشار مؤسسة مؤسسة السياب اليكترونية للادب والثقافة والمشرف الاداري العام للمؤسسة والمسؤول عن تنفيذ سياستها

مساحة إعلانية

مؤسسة السياب للثقافة والآداب للمزيد من المعلومات والاستفسار الإتصال بنا على الهاتف مراعاة الرمز البلد(العراق) 00964 07803776116

تــــنويــة

كاريكاتير اليوم

كاريكاتير اليوم